عقيدة الصدمه - La Stratégie du choc - The Shock Doctrine

نيومي كلاين مفكرة وكاتبة كندية عرفت من خلال كتابها "بدون ماركة"  والذي أحدث ضجة واسعة حين صدوره وأصبح أحد المراجع الأساسية للحركة العالمية المناهضة للنفوذ الهائل للشركات الكبرى متعددة الجنسيات والعابرة للدول. وقد أصدرت في سبتمبر الماضي كتابها الجديد والمعنون ب "عقيدة الصدمة." وسط توقعات بين المراقبين أن يفوق هذا الإصدار سابقه من حيث الشجاعة في الطرح والدقة في المضمون والقبول لدى شرائح واسعة من الشعوب المظلومة والمستغلة عبر العالم.


يتناول الكتاب الأسس النظرية وتاريخ التطبيقات العملية لسياسة الاستغلال الأقصى للصدمات التي تتعرض لها الشعوب سواء كانت هذه الصدمات بفعل الكوارث الطبيعية (تسونامي ونيو أورليانز) أو مفتعلة (انقلابات، حروب، غزو، تعذيب) هذه السياسة التي ولدت في كلية الاقتصاد في جامعة شيكاغو على يد المفكر الاقتصادي ملتون فريدمان وتبنتها الإدارة الأمريكية على مدى السنوات ال 35 الماضية. تعرض المؤلفة للتجارب المؤلمة التي أخضعت لها الشعوب من أجل تحقيق مصالح طبقة النخبة الرأسمالية المتحكمة بمفاتيح الثروة ابتداءً من الانقلاب الذي قاده بينوشيه عام 1973 في تشيلي بدعم من وكالة الاستخبارات الأمريكية ضد حكومة سلفادور أيندي المنتخبة، والذي جرى في 11 سبتمبر للمفارقة، وانتهاء بالاستغلال الفاحش لمواطني نيو أورليانز بعد كاترينا فضلاً عن الممارسات المفرطة في الظلم والوحشية والفساد التي شهدها العالم أجمع في العراق مروراً بما حدث في تيانانمين وفي روسيا وجزر الفولكلاند.

جميع هذه الأحداث لم تكن عشوائية ولكنها كانت ثمرة منهج مؤصل وموثق في شيكاغو يؤمن بأن النخبة الاجتماعية التي تقبض على الثروة هي وحدها المؤهلة لدفع عجلة النمو الاقتصادي وأن جميع العراقيل التي من شأنها أن تعوق مسيرة هؤلاء يجب أن تزال ولوكانت هذه العوائق تتمثل في حق المواطن العادي أن يعيش حياة كريمة تتوفر له فيها مقومات العيش الكريم الأساسية.

وتقوم المؤلفة في ثنايا الكتاب بريط الأحداث والممارسات التي ترد في وكالات الأنباء على أنها أحداث متفرقة باقتدار وتوثيق متناهيين وتسلط الضوء على أن ممارسات التعذيب في أبو غريب وغوانتانامو وغيرهما من سجون السي أي إي المنتشرة عبر أوروبا الشرقية والشرق الأوسط ليست إلا جزءً لا يتجزأ من مبدأ عقيدة الصدمة والذي يجري تطبيقه على الأفراد والشعوب على حد سواء.


(هكذا يستغل الرأسماليون الكوارث وعذابات الفقراء)...

ما الذي يربط بين انقلاب بينوشيه في تشيلي، والمذبحة في ميدان تيانانمين في الصين، وانهيار الاتحاد السوفييتي، واحداث 11 سبتمبر/ايلول ،2001 والحرب على العراق، وموجات تسونامي الآسيوية، وإعصار كاترينا في الولايات المتحدة؟ كل تلك الكوارث، سواء كانت من صنع الطبيعة أو من صنع البشر، أحدثت شعوراً بالصدمة لدى المجتمعات التي وقعت فيها، وتم استغلال تلك الصدمة لتمرير سياسات السوق الحرة، ونشر الخصخصة، وتعزيز رأسمالية الكوارث.هذه هي خلاصة ما تقوله نعومي كلاين، الصحافية، والمؤلفة، وصانعة الافلام الحائزة على العديد من الجوائز، في كتابها الجديد الموسوم بعنوان “عقيدة الصدمة: قيام رأسمالية الكوارث”، والصادر عن دار متروبوليتان بوكس.

كان تأثير إعصار كاترينا في مدينة نيواورلينز في ولاية لويزيانا الأمريكية مدمراً وبعيد الأمد. وفي 31 اغسطس/آب 2005 كان نحو 80% من هذه المدينة قد غمرها الفيضان، حيث بلغ ارتفاع المياه في بعض المناطق اكثر من خمسة أمتار. وعلى أثر ذلك تم اخلاء نحو 90% من سكان جنوب شرق لويزيانا في عملية إخلاء لم تشهد لها الولايات المتحدة مثيلاً من قبل.


.. ولكن كيف كان وقع هذه الكارثة التي دمرت اجزاء كبيرة من مدينة نيواورلينز، على بعض الساسة والمنظّرين الاقتصاديين الأمريكيين؟ تنقل المؤلفة، التي جعلت الحديث عن كارثة نيواورلينز مدخلاً لكتابها، قول عضو الكونجرس الجمهوري ريتشارد بيكر، الذي ينتمي إلى تلك المدينة، لجماعة من أنصاره “لقد نظفنا نيواورلينز أخيراً من المساكن الشعبية. لم نكن نستطيع فعل ذلك، ولكن الله فعله”. وكان جوزيف كانيزارو، أحد اشد المستثمرين ثراء في نيواورلينز، قد عبّر عن عاطفة مشابهة، إذ قال: “اعتقد ان لدينا الآن صفحة بيضاء لنبدأ من جديد وبتلك الصفحة البيضاء تتاح لنا فرص كبيرة جداً”.


وتقول المؤلفة، ان المجلس التشريعي لولاية لويزيانا ظل طوال ذلك الاسبوع مزدحما بممثلي الشركات والمصالح الكبرى، وهو يساعدهم على اغتنام تلك الفرص الكبرى: عن طريق خفض الضرائب، والتقليل من الاجراءات، والحصول على عمال بأجور أرخص، وتحويل المدينة لتصبح “أصغر وأكثر أمناً” الأمر الذي يعني من الناحية العملية، وضع خطط لازالة مشاريع الاسكان العامة واستبدالها بمباني شقق سكنية يملكها الأفراد.


وتخلص المؤلفة إلى القول، ان من الاشخاص الذين رأوا أن فيضانات نيواورلينز المدمرة تشكل فرصة سانحة، ميلتون فريدمان، المرشد الأكبر لحركة الرأسمالية المنعتقة من أي قيود، الذي يعود اليه الفضل في وضع قواعد لعبة الاقتصاد العالمي المطاط المعاصر.


وتضيف المؤلفة، ان فريدمان، الذي كان يومئذ في الثالثة والتسعين من العمر، وفي صحة متهالكة، وجد في نفسه القوة الكافية ليكتب مقالة رأي لصحيفة “وول ستريت جورنال” بعد ثلاثة أشهر من انهيار الحواجز والسدود في نيواورلينز. وجاء في مقالته: إن معظم مدارس نيواورلينز قد دمرت، مثلما منازل التلاميذ الذين كانوا يدرسون فيها. وقد تفرق هؤلاء التلاميذ في أرجاء البلاد. وتلك مأساة، ولكنها كذلك فرصة لاجراء اصلاح جذري لنظام التعليم.


وتقول المؤلفة: إن فكرة فريدمان الجذرية هي انه بدلاً من انفاق جزء من مليارات الدولارات المخصصة لإعادة البناء، في اعادة بناء وتحسين نظام المدارس العامة القائم في نيواورلينز، ينبغي على الحكومة ان تزود العائلات بصكوك يمكن انفاقها في المؤسسات الخاصة ، التي يتوخى العديد منها الربح، والتي ستتلقى دعماً مالياً من الولاية. وقد كتب فريدمان، ان من المهم جداً ألا يكون هذا التغيير الأساسي مؤقتاً ولسد الفراغ بل ان يكون “اصلاحاً دائماً”.


وقد انتهزت شبكة من بيوت الخبرة اقتراح فريدمان وتقاطرت على المدينة بعد العاصفة. ودعمت ادارة جورج دبليو بوش خططها بملايين الدولارات من أجل تحويل مدارس نيواورلينز إلى مدارس خاصة يمولها الجمهور وتديرها هيئات خاصة وفق الأسس والقواعد التي تراها ومثل هذه المدارس تخلق شروخاً عميقة في المجتمع الأمريكي، ويتجلى ذلك في نيواورلينز اكثر من سواها، حيث ينظر إليها العديد من أولياء أمور التلاميذ الأمريكيين من أصل افريقي، باعتبارها وسيلة للتراجع عن مكاسب حركة الحقوق المدنية، التي ضمنت لجميع التلاميذ مستوى واحدا من التعليم. أما بالنسبة إلى فريدمان، كما تقول المؤلفة، فإن المفهوم الكلي لنظام المدارس التي تديرها الدولة ينضح بالاشتراكية. وينحصر دور الدولة في نظره في “حماية حريتنا من أعدائنا المتربصين وراء بواباتنا، ومن زملائنا المواطنين والحفاظ على القانون والنظام، وفرض تطبيق العقود الخاصة، وتعزيز الاسواق التنافسية”. وبكلمات أخرى توفير رجال الشرطة والجنود أما كل شيء آخر، بما في ذلك توفير تعليم حر ومجاني، فهو تدخل جائر في شؤون السوق. 


خصخصة التعليم

وفي تباين حاد مع السرعة الفاترة التي تم بها اصلاح الحواجز والسدود، وإعادة الحياة الى شبكات الكهرباء، جرى بيع نظام المدارس في نيواورلينز بالمزاد العلني بسرعة ودقة لا مثيل لهما إلا في الجيش.

ففي خلال تسعة عشر شهراً، وبينما كان معظم سكان المدينة الفقراء لا يزالون خارجها، كان قد تم استبدال نظام المدارس العامة في نيواورلينز بصورة تامة تقريباً، بمدارس خاصة يديرها القطاع الخاص. فقبل إعصار كاترينا، كان مجلس التعليم يدير 123 مدرسة عامة، أما الآن فهو يدير 4 مدارس عامة فقط. ولم يكن في المدينة قبل تلك العاصفة سوى سبع من أمثال تلك المدارس الخاصة، أما الآن فيوجد منها 31 مدرسة، وكان المعلمون في نيواورلينز ممثلين في العادة في اتحاد قوي، أما الآن فقد انفرط عقد ذلك الاتحاد وتم انهاء خدمة جميع أعضائه البالغ عددهم 4700 عضو. واستؤجر بعض المعلمين الأصغر سناً للعمل لدى المدارس الخاصة المذكورة، وبرواتب أقل، أما الغالبية العظمى من المعلمين فلم تُستخدم.

وهكذا أصبحت مدينة نيواورلينز المختبر البارز في المجتمع الأمريكي، لاستخدام المدارس الخاصة المذكورة، على نطاق واسع. وقد ذكر بحماس معهد المشروع الأمريكي، وهو بيت خبرة يؤمن بفكر فريدمان، ان “إعصار كاترينا قد أنجز في يوم واحد.. ما عجز مصلحو نظام المدارس في لويزيانا عن فعله بعد سنوات من المحاولة”. أما معلمو المدارس العامة، الذين رأوا الأموال المخصصة لضحايا الفيضان تُحوّل لمحو معالم نظام عام واستبداله بنظام خاص، فقد كانوا يصفون خطة فريدمان بأنها “اغتصاب أراضٍ تربوي”.

وتقول المؤلفة انها تدعو هذه الغارات المنسقة على المجال العام في أعقاب الأحداث الكارثية المدمرة، مضافة إلى التعامل مع الكوارث باعتبارها فرصاً مثيرة بالنسبة الى السوق، “رأسمالية الكوارث”.

وتعود المؤلفة إلى الحديث عن فريدمان، فتقول ان مقالته عن نيواورلينز كانت توصيته الأخيرة في مجال السياسة العامة، فقد توفي قبل أقل من سنة على ذلك التاريخ أي في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2006 في الرابعة والتسعين من العمر. وتبدو خصخصة نظام المدارس في مدينة أمريكية متوسطة الحجم، من المشاغل المتواضعة لرجل كان ينعم بالثناء عليه ويوصف بأنه رجل الاقتصاد الأهم في نصف القرن الماضي، والذي كان من بين مريديه العديد من الرؤساء الأمريكيين، ورؤساء وزراء بريطانيا، وأفراد النخب الحاكمة في روسيا، ووزراء المالية البولنديين، وطغاة العالم الثالث، ووزراء الحزب الشيوعي الصيني، ومديري صندوق النقد الدولي، وآخر ثلاثة من رؤساء بنك الاحتياطي الأمريكي.

ومع ذلك فإن تصميمه على استغلال الأزمة في نيواورلينز من أجل الدفع قُدما بنسخة أصولية من الرأسمالية، كان وداعاً ملائماً من قبل الاستاذ الذي لا حد لنشاطه، والذي لا يتجاوز طوله 155 سنتيمتراً، والذي وصف نفسه وهو في أوج تألقه بأنه “واعظ من طراز قديم، يُلقي موعظة يوم الأحد”.

وكان فريدمان وأتباعه المتنفذون، على مدى أكثر من ثلاثة عقود، يستكملون ترسيخ استراتيجية محددة، مفادها انتظار وقوع كارثة كبرى، ثم بيع أجزاء من الدولة بالمزاد العلني لجهات في القطاع الخاص، بينما يكون المواطنون لا يزالون مذهولين من الصدمة، ثم الاسراع في جعل  هذه “الاصلاحات” دائمة.

وتقول المؤلفة ان فريدمان، عبّر بوضوح في إحدى مقالاته المؤثرة، عن الخطة التكتيكية الزائفة، التي تشكل جوهر الرأسمالية المعاصرة، والتي تفهمها المؤلفة باعتبارها مبدأ الصدمة. وقال فريدمان في مقالته تلك: “ان الأزمات فقط  سواء كانت حقيقية أو محسوسة  هي التي تخلق التغيير الحقيقي. فعندما تحدث تلك الأزمات فإن الاجراءات المتخذة تعتمد على الافكار المتوفرة، وتلك فيما أعتقد مهمتنا الأساسية: ان نوجد بدائل للسياسات الموجودة، وأن نبقيها حية ومتوفرة إلى أن يصبح المستحيل من الناحية السياسية، حتمياً من الناحية السياسية”.

وتعلق المؤلفة قائلة ان بعض الناس يدخرون الاطعمة المعلبة والماء استعداداً لوقوع الكوارث الكبرى، أما أتباع فريدمان فإنهم يدخرون أفكار السوق الحرة، وعندما تقع أزمة من الأزمات يكون استاذ جامعة شيكاغو مقتنعاً بأهمية العمل بسرعة خاطفة، لفرض تغير لا يمكن الرجوع عنه، قبل ان يثوب المجتمع الذي عزلته الأزمة الى رشده، ويعود إلى الخضوع “لاستبداد الواقع الراهن” وهو يقدر ان “أي ادارة جديدة لديها ستة إلى تسعة أشهر تستطيع خلالها ان تجري تغييرات كبرى، واذا لم تغتنم الفرصة لتتصرف بصورة حاسمة خلال تلك الفترة، فلن تتاح لها فرصة أخرى مماثلة”.

وذلك شكل آخر مرة من أشكال نصائح مكيافيلي الذي يرى ضرورة تحقيق الاصابات على الفور ودون تريث.


استغلال الصدمة

وقد تعلم فريدمان كيف يستغل الصدمة أو المحنة الواسعة النطاق في أواسط سبعينات القرن الماضي عندما عمل مستشاراً لدى الدكتاتور التشيلي، الجنرال أوغستو بينوشيه، فلم يكن التشيليون في حالة صدمة فقط في اعقاب انقلاب بينوشيه العنيف، بل كانت البلاد كذلك تعيش صدمة التضخم الحاد، وقد أشار فريدمان على بينوشيه ان يفرض تحولاً سريعاً جداً في الاقتصاد:  خفض الضرائب، وتحرير التجارة، وخصخصة الخدمات، وخفض الانخفاض الاجتماعي، ووقف تدخل الحكومة وتحكمها بكثير من الأمور، وأخيراً رأى التشيليون حتى مدارسهم العامة تستبدل بمدارس خاصة يمولها كفلاء.

وكان ذلك أشد عملية تجميل رأسمالي تمارس في أي مكان، وأصبحت تعرف باسم ثورة “مدرسة شيكاجو”، لأن العديد جداً من رجال الاقتصاد لدى بينوشيه كانوا قد درسوا على يدي فريدمان في جامعة شيكاجو. وقد تنبأ فريدمان بأن سرعة وفجائية وحجم التحولات الاقتصادية سوف تثير ردود فعل نفسية لدى الجمهور “تسهل اجراء التعديل”. وقد ابتدع عبارة تصف هذا التكتيك المؤلم، وهي “معالجة الاقتصاد بالصدمة” وفي عشرات السنين التي تلت ذلك، عندما كانت الحكومات تفرض برامج كاسحة لتحرير السوق، كانت المعالجة الفجائية بالصدمة، هي الاسلوب الذي تختاره.

وقد سهل بينوشيه اجراء التعديل، باستعماله علاجات الصدمة الخاصة به، وكانت هذه تمارس داخل زنازين التعذيب العديدة الخاصة بنظام بينوشيه، ذلك التعذيب الذي كان يحيق بأجساد من يعتبرون أميل من غيرهم الى اعتراض سبيل التحول الرأسمالي.

وقد رأى كثيرون في أمريكا اللاتينية رابطة مباشرة بين الصدمات الاقتصادية التي أوصلت ملايين الناس الى حضيض الفقر، ووباء التعذيب الذي كان عقاب ألوف الناس الذين كانوا يؤمنون بوجود نوع مختلف من المجتمعات.

وتضيف المؤلفة، انه بعد ثلاثين سنة من استعمال هذه الاشكال (الصيغ) الثلاثة من الصدمة التي طبقت في تشيلي، عادت هذه الصيغة إلى الظهور من جديد، بعنف أشد بكثير، في العراق. فأولاً، جاءت الحرب، التي كان الهدف منها على حد قول مؤلفي مبدأ (الصدمة والرعب) العسكري، هو “السيطرة على ارادة الخصم، وأحاسيسه وادراكه وجعل الخصم عاجزاً بالمعنى الحرفي عن الفعل أو الرد”.

وبعد ذلك جاء علاج الصدمة الاقتصادية الجذري، الذي فرض، بينما كانت البلاد لا تزال تحت لهب النيران، من قبل المبعوث الأمريكي بول بريمر وذلك بالخصخصة الشاملة، والتجارة الحرة بصورة كاملة، وخفض الضرائب بنسبة 15%. وخفض حجم الحكومة على نحو دراماتيكي.

وتمضي المؤلفة قائلة انها بدأت اجراء ابحاثها على اعتماد السوق الحرة على قوة الصدمة، قبل أربع سنوات خلال الأيام الأولى من احتلال العراق، وبعد قيامها بالتغطية الصحافية من بغداد لمحاولات واشنطن الفاشلة ان تنتقل بعد الصدمة والرعب الى العلاج بالصدمة، سافرت المؤلفة الى سريلانكا، بعد شهور عدة من وقوع كارثة تسونامي المدمرة، وشهدت نسخة اخرى من المناورة ذاتها كما تقول: حيث تقاطر المستثمرون الأجانب والمقرضون الدوليون على استغلال جو الذعر وتسليم الخط الساحلي الرائع برمته إلى المقاولين الذي سارعوا الى بناء المنتجعات الضخمة، ومنعوا مئات الألوف من السكان الذين يعيشون على الصيد من اعادة بناء قراهم قريباً من الماء، وتنقل المؤلفة ما اعلنته الحكومة الاندونيسية في ذلك الوقت اذ قال ناطق باسمها “في انعطاف قاس للقدر، قدمت الطبيعة لسريلانكا فرصة فريدة، فمن رحم هذه المأساة العظيمة سيولد موقع سياحي ذو مرتبة عالية”، ففي الوقت الذي ضرب فيه إعصار كاترينا مدينة نيواورلينز، وبدأت جوقة الساسة الجمهوريين، وبيوت الخبرة، والعاملين على تطوير الأراضي واستغلالها الحديث عن “الصفحات البيضاء” والفرص المثيرة، كان واضحا ان هذا هو الأسلوب المفضل الآن لدفع أهداف تكتلات الشركات الكبرى الى الأمام، وهو: استغلال لحظات الصدمة الجماعية للانخراط في هندسة اجتماعية واقتصادية جذرية.

ومظم الناس الذين ينجون من كارثة مدمرة يريدون عكس فكرة الصحيفة البيضاء، فهم يريدون انقاذ ما يمكن انقاذه والبدء في اصلاح ما لم يدمر، كما يريدون توكيد علاقتهم وارتباطهم بالأماكن التي كونتهم، وكما قالت احدى المنكوبات في مدينة نيواورلينز “عندما أعيد بناء المدينة أعيد بناء نفسي”. ولكن رأسماليي الكوارث لا يعنيهم اصلاح ما كان، ففي العراق، وسريلانكا، ونيواورلينز، بدأت العملية التي تسمى زوراً باسم “اعادة البناء” بإنهاء المهمة التي بدأتها الكارثة الاصلية، وذلك بمحو ما تبقى من المجال العام والمجتمعات التي اقتلعت، واستبدالها، قبل ان يتمكن ضحايا الحرب او الكارثة الطبيعية من اعادة تنظيم انفسهم وتعزيز مطالبتهم بما كان لهم.

وتستشهد المؤلفة بقول رئيس احدى الشركات الأمنية في العراق، وهو ضابط سابق في وكالة الاستخبارات المركزية: “بالنسبة إلينا، وفر لنا الخوف والفوضى فرصة ذهبية” وهو يشير بذلك إلى أن الفوضى التي سادت العراق بعد الغزو، ساعدت شركته الأمنية المغمورة والتي تفتقر إلى الخبرة، على اقتناص 100 مليون دولار من الحكومة الأمريكية على هيئة تعاقدات، وتصلح كلماته، كما تقول المؤلفة، ان تكون شعاراً للرأسمالية المعاصرة  فالخوف والفوضى هما المحفزان على كل قفزة جديدة الى الأمام.


قوة الصدمة والرعب العسكرية

تقول المؤلفة انها عندما بدأت إجراء بحثها هذا على العلاقة بين الأرباح الهائلة والكوارث العظيمة، كانت تشهد تغيراً أساسياً في الطريقة التي يتقدم بها الدافع الى “تحرير” الأسواق، في أرجاء العالم.

فهي بوصفها جزءاً من الحركة المناهضة للتنامي الهائل في قوة ونفوذ تكتلات الشركات الكبرى، كانت تألف رؤية السياسات المحابية لأصحاب الأعمال والمشاريع وهي تفرض من خلال عمليات لي الذراع التي تجري في مؤتمرات منظمة التجارة العالمية، أو الشروط التي تقرن بالقروض من صندوق النقد الدولي، وكانت المطالب الثلاثة، التي تشبه الماركة المسجلة، وهي الخصخصة ووقف تدخل الحكومة، وعمليات الخفض الحاد للانفاق الاجتماعي تميل إلى أن تكون ضد مصلحة المواطنين بصورة متطرفة، ولكن عندما كان يتم توقيع الاتفاقيات، كانت تبقى على الأقل ذريعة الرضا والموافقة المتبادلة بين الحكومات التي تجري التفاوض، إلى جانب الاجماع بين من يفترض انهم خبراء، أما الآن فإن البرنامج الايديولوجي ذاته، يتم فرضه بأشد الوسائل القسرية الممكنة وقاحة، أي عن طريق الاحتلال العسكري الاجنبي بعد القيام بالغزو، أو بعد حدوث كارثة طبيعية مدمرة، على الفور، ويبدو أن 11 سبتمبر/ ايلول قد وفر لواشنطن الضوء الأخضر لكي تكف عن سؤال الدول عما اذا كانت تريد النسخة الأمريكية من “التجارة الحرة والديمقراطية”، وان تبدأ فرضها بقوة الصدمة والرعب العسكرية.

(إدارة بوش حوّلت هجمات 2001 إلى مشروع يدر الأرباح)... تواصل المؤلفة الحديث عن مبدأ الصدمة، التي تسبق اجراء التغييرات الرأسمالية الكبرى في المجتمعات. وتقول انها كلما تعمقت في دراسة تاريخ الكيفية التي اجتاح بها نموذج السوق هذا، العالم، اكتشفت ان فكرة استغلال المحن والكوارث كانت وما تزال اسلوب عمل حركة ملتون فريدمان منذ البداية، فقد كانت صيغة الرأسمالية الأصولية هذه بحاجة الى الكوارث دائماً كي تتقدم. ومن المؤكد ان هذه الكوارث المساعدة تصبح أضخم شيئاً فشيئاً وأشد إثارة للصدمة والذهول، ولكن ما كان يحدث في العراق وفي نيو أورلينينز لم يكن اختراعاً جاء في أعقاب 11 سبتمبر/أيلول بل ان هذه الممارسات الوقحة في استغلال المحنة كانت تجسيداً لثلاثة عقود من الالتزام الصارم بمبدأ الصدمة.

فإذا نظرنا الى السنوات الخمس والثلاثين الماضية من خلال عدسة هذا المبدأ، لبدت مختلفة جداً. فبعض أشهر انتهاكات حقوق الانسان في هذه الحقبة، والتي اعتبرت اعمالاً سادية ارتكبتها أنظمة مناوئة للديمقراطية، كانت إما مرتكبة عن عمد بقصد ارهاب العامة، وإما انها استغلت بنشاط لتهيئة الأرضية لإدخال “اصلاحات” سوق حرة جذرية. ففي الأرجنتين كان “اختفاء” ثلاثين ألف شخص معظمهم من الناشطين اليساريين، على أيدي الطغمة العسكرية في السبعينات، مكملاً لفرض سياسات مدرسة شيكاجو في البلاد، تماماً مثلما كان الارهاب قريناً للنوع ذاته من المسخ الاقتصادي في تشيلي. وفي الصين سنة ،1989 كانت صدمة مذبحة ميدان تيانانمين وما أعقبها من اعتقال عشرات الألوف، هما اللذان أطلقا يد الحزب الشيوعي لتحويل الشطر الأعظم من البلاد إلى منطقة تصدير ممتدة، غاصة بعمال يمنعهم الذعر عن المطالبة بحقوقهم. وفي روسيا سنة ،1993 كان قرار بوريس يلتسين ارسال الدبابات لقصف مبنى البرلمان وحجز قادة المعارضة هو الذي مهد السبيل أمام حركة الخصخصة الواسعة النطاق التي خلقت الأقليات المتحكمة سيئة الذكر في البلاد.

وقد خدمت حرب فوكلاند سنة 1982 غرضاً مشابهاً لدى مارجريت تاتشر في المملكة المتحدة: فقد سمحت الفوضى والهياج القومي الناتجان عن الحرب لتاتشر أن تستخدم قوة هائلة لسحق عمال مناجم الفحم المضربين، وأن تطلق أول سعار للخصخصة في دولة ديمقراطية غربية. وقد خلق هجوم حلف شمال الأطلسي على بلجراد سنة 1999 الظروف لإجراء خصخصة سريعة في يوغوسلافيا السابقة،  وذلك هدف يعود تاريخه إلى ما قبل الحرب. وتقول المؤلفة إن الشؤون الاقتصادية لم تكن بحال من الأحوال الدافع الوحيد لهذه الحروب، ولكن في كل حالة منها تم استغلال صدمة جماعية كبرى لتمهيد السبيل أمام علاج بالصدمة الاقتصادية.

وتضيف المؤلفة أن الصدمة التي تهدف للقضاء على المعارضة، لا تحدث بعنف ظاهري دائماً، ففي أمريكا اللاتينية وآسيا في الثمانينات، كانت محنة الديون هي التي أجبرت الدول على أن “تتخصخص أو تموت”، على حد تعبير أحد المسؤولين في صندوق النقد الدولي. فبعد أن أنهكها فرط التضخم، وأصبحت مدينة إلى درجة لا تسمح لها برفض المطالب التي جاءت مقرونة بالقروض الأجنبية، قبلت الحكومات “العلاج بالصدمة” على أمل أن ينقذها ذلك من كارثة أعمق، كما حدث مع بعض دول آسيا سنة 1997 / 1999. وكان العديد من هذه الدول ديمقراطياً، ولكن تحولات السوق الحرة الجذرية لم تفرض فيها بطريقة ديمقراطية. بل على العكس تماماً، إذ وفر جو الأزمة الواسعة النطاق الذريعة اللازمة لنقض أماني الناخبين وتسليم البلاد إلى “تكنوقراطيين” اقتصاديين.

وكانت هنالك حالات، جرى فيها تبني سياسات السوق الحرة بطريقة ديمقراطية  حيث كان هنالك ساسة خاضوا الانتخابات على أسس متشددة وفازوا فيها، وخير مثال على ذلك الولايات المتحدة في عهد رونالد ريجان، وانتخاب نيكولاي ساركوزي في فرنسا في الآونة الأخيرة. ولكن أنصار السوق الحرة واجهوا ضغطاً شعبياً وكانوا مضطرين لذلك إلى تعديل خططهم الراديكالية، وقبول إجراء تغييرات تدريجية بدلاً من التحول الكلي. وخلاصة القول إنه بينما يصلح أنموذج فريدمان لأن يفرض جزئياً بموجب الديمقراطية، فإن الظروف الاستبدادية مطلوبة لتطبيق نسخته الحقيقية، ولكي يطبق العلاج بالصدمة الاقتصادية من دون قيود، كما حدث في التشيلي في السبعينات، والصين في أواخر الثمانينات وروسيا في التسعينات، والولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر/ أيلول ،2001 كان مطلوباً على الدوام نوع من الصدمة الجماعية الكبرى الإضافية، صدمة إما أن تعلق تطبيق الممارسات الديمقراطية مؤقتاً أو تعطلها بصورة تامة. وكانت هذه الحملة الإيديولوجية الشرسة قد ولدت عند الأنظمة الاستبدادية في أمريكا الجنوبية، وفي أوسع المناطق التي فتحتها مؤخراً  وهي روسيا والصين  تتعايش بكل ارتياح، وبأكبر قدر من جني المكاسب مع قيادة ذات قبضة حديدية حتى يومنا هذا.


مبدأ الصدمة.. في الولايات المتحدة

تلاحظ المؤلفة ان حركة مدرسة شيكاجو التي تزعمها ملتون فريدمان ظلت توالي “فتوحاتها” الاقتصادية في انحاء العالم منذ سبعينات القرن الماضي، ولكن تصورها لم يطبق بصورة كاملة في البلد الذي نشأت فيه، وهو الولايات المتحدة، إلا منذ عهد قريب. صحيح ان ريجان قد سار على هذا الدرب، ولكن الولايات المتحدة ظلت تحتفظ بنظام للرفاه والأمن الاجتماعي والمدارس العامة، حيث تمسك أولياء الأمور بما وصفه فريدمان بأنه “ارتباطهم غير المنطقي بالنظام الاشتراكي”.

وعندما سيطر الجمهوريون على الكونجرس سنة ،1995 كان ديفيد فروم، وهو كندي مزروع في الإدارة الأمريكية، كما تقول المؤلفة، وكاتب خطابات الرئيس جورج دبليو بوش فيما بعد، من بين من يسمون بالمحافظين الجدد الذين يدعون الى ثورة اقتصادية في الولايات المتحدة بأسلوب العلاج بالصدمة. وكان يقول “اني أرى فعل ذلك على النحو التالي: بدلاً من وقف البرامج وإجراء عمليات الخفض بصورة متقطعة وتدريجية، قليل هنا وقليل هناك، أقول ان ننهي في يوم واحد خلال هذا الصيف ثلاثمائة برنامج، يكلف كل منها مليار دولار أو اقل. ونستطيع أن نفعل ذلك على الفور”.

ولم تكن الظروف متاحة لفروم في ذلك الوقت لتطبيق علاج الصدمة هذا، لأنه لم تكن ثمة أزمة أو محنة تمهد السبيل أمامه. ولكن الأمر تغير سنة 2001. فعندما وقعت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، كان البيت الأبيض غاصاً بمريدي فريدمان، ومن بينهم صديقه الحميم دونالد رامسفيلد. واستغل فريق رامسفيلد لحظة الدوار الجماعي الذي حل بالشعب الأمريكي، بسرعة خاطفة، لا لأن الإدارة قد خططت للأزمة بصورة مباشرة، كما ادعى البعض، بل لأن الشخصيات الرئيسية في الإدارة، وقدامى خبراء تطبيق رأسمالية الكوارث في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، كانوا جزءاً من حركة تصلي من أجل وقوع محنة، مثلما يصلي المزارعون الذين استبد بهم القحط من اجل سقوط المطر، أو مثلما يصلي المسيحيون الصهاينة من اجل وقوع (الاختطاف) الذي تحدث عنه سفر الرؤيا، كما تقول المؤلفة. فعندما تضرب المحنة التي طال انتظارها، يعرفون على الفور ان الفرصة قد حانت أخيراً.

وقد استغل فريدمان وأتباعه، على مدى ثلاثة عقود لحظات الصدمة بطريقة منتظمة في الدول الأخرى  التي وقعت فيها أحداث تعادل أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، بدءاً بانقلاب بينوشيه في 11 سبتمبر 1973. والذي حدث في 11 سبتمبر 2001 ان الايديولوجيا التي ولدت في الجامعات الأمريكية وتحصنت في معاهد واشنطن ومؤسساتها العلمية، قد حانت لها الفرصة أخيراً لكي تطبق في الوطن.

وسارعت إدارة بوش الى استغلال الخوف الذي ولدته الهجمات، لا لكي تطلق “الحرب على الإرهاب” وحسب، بل لتحويله ايضاً الى مشروع يدر الأرباح، وصناعة جديدة مزدهرة، ردت اليها الحياة من جديد، في الاقتصاد الأمريكي المتعثر. ولهذه الرأسمالية التي تكون أوضح في الذهن، اذا اعتبرت “مجمعاً لرأسمالية الكوارث”، مجسات أطول وأبعد مدى من مجمع الصناعات العسكرية الذي حذر منه دوايت ايزنهاور في أواخر فترة رئاسته: فهذه حرب عالمية تخاض على كل مستوى بشركات خاصة يدفع لها من المال العام، مع تفويض لا نهاية له بحماية الوطن الأمريكي الى الأبد بينما تستأصل كل “شر” في الخارج. وفي غضون سنوات قليلة فقط، وسع هذا المجتمع مجال سوقه من محاربة الإرهاب، إلى حفظ السلام الدولي، الى توفير الشرطة المحلية، الى الاستجابة للكوارث الطبيعية المتزايدة. والهدف النهائي للشركات التي تشكل لب هذا المجمع، هو إدخال نموذج الحكم من أجل الربح، الذي يتقدم بسرعة طاغية ضمن الظروف غير العادية، الى صلب عمل الحكومة اليومي، اي خصخصة الحكومة في واقع الامر.

ولكي تشغل إدارة بوش مجمع رأسمالية الكوارث، أوكلت الى جهات من خارج الحكومة، ومن دون إجراء نقاش عام، تنفيذ الكثير من المهام الحساسة، من توفير الرعاية الصحية للجنود، الى التحقيق مع السجناء، الى جمع البيانات والمعلومات عن كل مواطن امريكي. وليس دور الحكومة في هذه الحرب التي لا تنتهي، هو دور المدير الذي يدير شبكة من الشركات المتعاقدة، بل هو دور رأسمالي المشاريع والمجازفات ذي الجيوب الواسعة، حيث تقوم بتوفير الأموال اللازمة لتأسيس هذا المجمع، والتحول الى اكبر متعامل معه في الخدمات التي يقدمها. وتورد المؤلفة ثلاثة احصاءات تبين حجم التحول، ففي سنة 2003 سلمت الحكومة الامريكية 3512 عقدا الى شركات لتقوم بأداء مهمات أمنية، وفي فترة الاثنين وعشرين شهرا التي تنتهي في شهر اغسطس/آب ،2006 كانت وزارة الأمن الداخلي الامريكية قد أصدرت اكثر من 115 ألفاً من مثل تلك العقود و”صناعة أمن الوطن”- التي لم تكن مهمة من الناحية الاقتصادية قبل سنة 2001- تشكل الآن قطاعاً رأسماله 200 مليار دولار. وفي سنة 2006 كان معدل انفاق الحكومة الامريكية على الأمن الداخلي 545 دولارا لكل اسرة.

وكان ذلك مجرد الجبهة الداخلية للحرب على الإرهاب، أما الأموال الحقيقية فهي التي تنفق في خوض الحروب في الخارج، فإلى جانب العقود مع شركات توفير الأسلحة، التي شهدت تصاعد أرباحها الهائل بفضل الحرب في العراق، تشكل صيانة الجيش الامريكي واحدة من اسرع اقتصاديات الخدمات نموا في العالم.

وهنالك بعد ذلك، الغوث الإنساني وإعادة البناء، فقد غدا الغوث وإعادة البناء من أجل الربح، اللذان كانت بواكير استعمالهما في العراق، النموذج الدولي الجديد، بصرف النظر عما إذا كان التدمير الاصلي قد حدث من حرب عدوانية، مثل هجوم “اسرائيل” على لبنان سنة 2006 او بسبب اعصار. ومع شح الموارد والتغير المناخي اللذين يولدان سيلا متعاظما من الكوارث الجديدة، تصبح الاستجابة للطوارئ سوقا ناشئة أهم من أن تترك للمنظمات غير الربحية - فلماذا تبني اليونيسيف المدارس، بينما يمكن فعل ذلك بوساطة شركة بكتل، وهي احدى أضخم الشركات الهندسية في الولايات المتحدة؟ ولماذا يوضع المشردون من المسيسيبي في شقق خالية مدعومة بالمال، بينما يمكن إيواؤهم على سفن شركة كارنيغال الجوالة؟ ولماذا تنشر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في دارفور، بينما تبحث شركات أمنية خاصة مثل “بلاك ووتر” عن عملاء جدد؟ وهذا هو الفرق الذي أحدثه ما بعد 11 سبتمبر/ايلول: قبل ذلك، كانت الحروب والكوارث توفر الفرص لقطاع ضيق من الاقتصاد - اسواق المقاتلات النفاثة على سبيل المثال، او شركات الانشاءات التي أعادت بناء الجسور المدمرة اثناء القصف،  ولكن الدور الاقتصادي الاساسي للحروب كان ان تشكل وسيلة لفتح اسواق جديدة ظلت مغلقة من قبل، وتوليد حالات ازدهار في زمن السلم بعد انتهاء الحرب. أما الآن فإن الحروب والاستجابة للكوارث، مخصخصة بصورة تامة، بحيث أنها غدت في حد ذاتها، تشكل السوق الجديدة، وليس هنالك حاجة الى الانتظار الى ما بعد الحرب لكي يحدث الازدهار.

وتقول المؤلفة إن احدى الميزات الرئيسية لهذا النهج المابعد حداثي، هي انه بمعطيات السوق، لا يمكن أن يفشل. وكما قال احد المحللين الاقتصاديين، معلقا على أرباح شركة خدمات الطاقة، هاليبرتون، خلال ربع سنة، والتي كانت مرتفعة بوجه خاص “إن وضع العراق أفضل، مما كان متوقعا”، وكان ذلك في شهر اكتوبر/تشرين الاول 2006 أعنف شهر في سجلات الحرب، بلغت خسائر المدنيين العراقيين فيه 3709 قتلى، ومع ذلك يصعب على مالكي أسهم تلك الشركة ألا يكونوا فرحين بالحرب التي درت 20 مليار دولار من العائدات على شركتهم وحدها.

وفي غمار تجارة الأسلحة، وجنود الشركات الخاصة، وإعادة البناء بهدف الربح وصناعة الأمن الداخلي، فإن الذي برز نتيجة صيغة علاج الصدمة التي سارت عليها إدارة بوش بوجه خاص في مرحلة ما بعد 11 سبتمبر/أيلول، هو اقتصاد جديد معبر عنه بوضوح تام، وقد بُني في عهد بوش، ولكنه يوجد الآن بمعزل عن أي إدارة بعينها، وسيظل صامداً بثبات، إلى أن يتم تحديد ايديولوجية الشركات التسلطية التي تشدّ أزره، وعزلها وتحديها، وهذا المجمع يخضع لهيمنة الشركات الأمريكية، ولكنه دولي، مع جلب الشركات البريطانية لخبرتها في مجال آلات التصوير الأمنية التي ترصد كل شيء، والشركات “الإسرائيلية” لخبرتها في بناء الأسيجة والجدران ذات التقنية العالية، وصناعة الأخشاب الكندية التي تبيع البيوت الجاهزة التي تفوق أسعارها نظيرتها المنتجة محلياً عدة مرات.


خصخصة الحرب والكوارث

ترى المؤلفة أن اقتصاد الكوارث، متوافق مع أرباح صناعة التأمين التي تصاعدت بنسبة ضخمة (والتي بلغت رقماً قياسياً هو 60 مليار دولار في الولايات المتحدة وحدها)، ومترافقاً كذلك مع الأرباح الفائقة لصناعة النفط (التي تنمو مع كل أزمة جديدة)، قد يكون أنقذ السوق العالمية من الركود التام الذي كانت تواجهه عشية أحداث 11/9.

وتشير المؤلفة إلى الصعوبة التي تواجه المؤرخ للحملة الايديولوجية العنيفة التي بلغت أوجها بخصخصة الحرب والكوارث، وهي أن هذه الايديولوجيا تغير شكلها، ولا تكف عن تغيير اسمها وهواياتها، فقد كان فريدمان يصف نفسه بأنه “ليبرالي” ولكن اتباعه الأمريكيين، الذين كانوا يعرفون أنفسهم بأنهم “محافظون” أو “اقتصاديون كلاسيكيون” أو مؤيدو السوق الحرة، وفيما بعد “الاقتصاديون الريجانيون” أو “أنصار سياسة عدم تدخل الدولة”. وفي معظم أنحاء العالم تعرف عقيدتهم باسم “المحافظة الجديدة”، ولكنها غالباً ما تدعى باسم “التجارة الحرة” أو “العولمة” ببساطة. وفي أواسط التسعينات فقط، دعت الحركة الثقافية- بقيادة بيوت الخبرة اليمينية التي كان فريدمان يقيم معها علاقات قديمة طويلة- مثل هريتيج فاونديشن، ومعهد كانو، ومعهد المشروع الأمريكي- نفسها باسم “المحافظين الجدد”، وهي تحمل رؤية للعالم جعلتها تحشد كامل قوة الآلة العسكرية الأمريكية في خدمة أجندة الشركات الكبرى.

وتشترك جميع هذه التجليات في التزاماتها بالثالوث الذي تؤمن به هذه الحركة، وهو إنهاء نشاط الدولة في المجال العام، والتحرير التام للاقتصاد وتحويله إلى الشركات الخاصة الكبرى، وخفض الانفاق الاجتماعي إلى الحد الأدنى.

وترى المؤلفة أن الاسم المناسب للنظام الذي يمحو الحدود بين سيطرة الحكومة وسيطرة عالم الأعمال والشركات الكبرى، ليس ليبرالياً ولا محافظاً ولا رأسمالياً، بل هو النظام القائم على هيمنة الشركات الكبرى، وخصائصه الرئيسية هي التحويلات الضخمة للثروة العامة إلى أيدي القطاع الخاص، الأمر الذي يكون مصحوباً غالباً بتضخم الديون، واتساع الهوة بين فاحشي الثراء والفقراء فقراً مدقعاً، والنزعة القومية العدوانية التي تبرر الانفاق الذي لا حد له على الأمن، وبالنسبة إلى أولئك الذين يعيشون داخل فقاعة الثروة الهائلة التي صنعتها مثل هذه الظروف، لا توجد طريقة أفضل من هذا لتنظيم المجتمع. ولكن بسبب التراجعات الواضحة بالنسبة إلى الغالبية العظمى لمن يُتركون خارج تلك الفقاعة، تتضمن السمات الأخرى لهذا النوع من الحكم الرقابة العدائية، والحبس الجماعي، وتقليص الحريات المدنية، والتعذيب في أحيان كثيرة، وان لم يكن دائماً.
              
(حروب مخصخصة في الخارج ومجمع أمني للشركات الكبرى في الداخل)... تصف المؤلفة مبدأ الصدمة، بأنه فلسفة تعتمد على القوة، وتتعلق بكيفية تحقيق الأهداف السياسية والاقتصادية، وهي فلسفة تؤمن بأن خير سبيل وأفضل وقت لفرض أفكار السوق الحرة الراديكالية، هو بعد حدوث صدمة كبرى. وقد تكون تلك الصدمة كارثة طبيعية، وقد تكون هجوماً ارهابياً، وقد تكون حرباً ولكن الفكرة أن هذه المحن والأزمات، وهذه الكوارث، وهذه الصدمات تطوع المجتمعات برمتها، وتربكها وتجعلها تفقد قدرتها على التحمل، ثم تنفتح نافذة كتلك التي تنفتح في زنزانة التحقيق. وعبر تلك النافذة يمكن تمرير ما يسميه الاقتصاديون “العلاج بالصدمة الاقتصادية” وهو عملية تجميل شاملة ومتطرفة، تنطوي على تغيير كل شيء دفعة واحدة، وهي ليست إجراء إصلاح هنا وآخر هناك، بل تغيير جذري، مثل الذي شهده العالم في روسيا في تسعينات القرن الماضي، والتغيير الذي حاول بريمر فرضه في العراق بعد الغزو.

وتوضح المؤلفة ان كتابها لا يدعي ان اليمينيين في الزمن المعاصر هم وحدهم الذين استغلوا الأزمات والمحن، لأن استغلال الأزمة ليس مقصوراً على هذه الايديولوجيا وحدها، فقد فعل الفاشيون ذلك وفعله المسؤولون في الدول الشيوعية، ولكن الكتاب محاولة لفهم أفضل للايديولوجيا الحالية، وهي الايديولوجيا المهيمنة في الوقت الحاضر.. ايديولوجيا اقتصادات السوق المتحررة من أي قيد.


تجربة تشيلي

تتحدث المؤلفة عن تطبيق أفكار ملتون فريدمان على أمريكا اللاتينية، وفي تشيلي بوجه خاص، حيث تم تحويل تشيلي في عهد بينوشيه إلى مختبر لهذه الأفكار الراديكالية، التي لم تكن متسقة مع الديمقراطية في الولايات المتحدة، بل هي ممكنة التطبيق بصورة لا حد لها في ظل الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية، فبعد انتخاب سلفادور الليندي، الاشتراكي الديمقراطي رئيساً لتشيلي سنة ،1970 كانت هناك مؤامرة للاطاحة به. ومن المشهور عن نيكسون قوله “دع الاقتصاد يصرخ” وكانت لتلك المؤامرة عناصر عدة، منها المقاطعة الاقتصادية وغيرها، وأخيراً مؤازرة انقلاب بينوشيه في 11 سبتمبر/ ايلول 1973. وتقول المؤلفة اننا كثيراً ما نسمع عن “اولاد شيكاجو” في تشيلي، من دون أن نعرف الكثير عن تفاصيل هويتهم.

وتقول المؤلفة إنها تعيد في كتابها رواية هذا الفصل من التاريخ، وهي تعتبر الأجندة الاقتصادية لحكومة بينوشيه أهم بكثير مما يبدو، لأن العالم يعرف، كما تقول، انتهاكات حقوق الانسان التي ارتكبها بينوشيه وتجميعه الناس في ساحات الملاعب الرياضية واعدامهم من دون محاكمة، وممارسة التعذيب وغير ذلك من الانتهاكات، ولكن العالم يعرف اقل من ذلك عن البرنامج الاقتصادي الذي طبقه بينوشيه عبر نافذة الفرصة التي انفتحت بعد صدمة الانقلاب، وهو بذلك يصلح مثالاً مباشراً على نظرية مبدأ الصدمة.

وتضيف المؤلفة: وإذا ما نظرنا بدقة إلى ما حدث في تشيلي فإننا سوف نرى ما حدث في العراق. فنحن نرى العراق اليوم، ونرى أوجه شبه كثيرة بين الأزمة المصطنعة في البلدين، وفرض العلاج بالصدمة الاقتصادية بعدها مباشرة. وهنالك الكثير من التشابه بين ما حدث في تشيلي وبين الفترة التي قضاها بول بريمر في العراق، عندما ذهب إلى بغداد وهي لاتزال تحترق، ومزق النسيج الاقتصادي العراقي برمته، وحول البلاد إلى مختبر لأشد سياسات السوق الحرة راديكالية”.

ففي تشيلي، في 11 سبتمبر/ أيلول ،1973 عندما كانت الدبابات تزحف في شوارع سنتياجو، وبينما كان القصر الرئاسي يحترق وسلفادور الليندي يرقد ميتاً، كانت هنالك مجموعة ممن يسمون “أولاد شيكاجو”، وهم رجال اقتصاد تشيليون كانوا قد اخذوا إلى جامعة شيكاجو ليدرسوا ضمن بعثة ممولة بالكامل من الحكومة الأمريكية كجزء من استراتيجية لمحاولة تحريك أمريكا اللاتينية نحو اليمين، بعد ان ظلت حتى ذلك الوقت تتحرك نحو اليسار. وهكذا كان ذلك برنامجاً مؤدلجاً جداً وممولاً من قبل الحكومة، وجزءاً مما دعاه وزير خارجية التشيلي السابق “مشروعاً لتحويل ايديولوجي مدروس”، أي أخذ هؤلاء الطلاب إلى تلك الكلية المتطرفة جدا في جامعة شيكاجو، وتشريبهم عقيدة صيغة من علم الاقتصاد كانت هامشية في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، ثم إعادتهم إلى وطنهم كمحاربين عقائديين.

وهكذا ظلت هذه المجموعة من الاقتصاديين الذين فشلوا في اقناع التشيليين بوجهة نظرهم عندما كانت جزءا من نقاش علني، ساهرة طوال الليل يوم 11 سبتمبر/ ايلول 1973 وكانوا يستخرجون نسخا فوتوجرافية عن وثيقة تدعى “قطعة الآجر”، وهي عبارة عن البرنامج الاقتصادي لحكومة بينوشيه، وهي تحمل وجوه الشبه التالية مع استراتيجية انتخابات جورج بوش سنة 2000 أو خطته الانتخابية، فهي تتحدث عن مجتمع ملكية، وخصخصة الأمن الاجتماعي، وخصخصة المدارس العامة، والضرائب المنتظمة التي لاتختلف باختلاف مستوى الدخل للفرد. وكل ذلك مقتبس مباشرة من تكتيكات وأساليب ملتون فريدمان. وكانت تلك الوثيقة على طاولة الجنرالات في 12 سبتمبر/ايلول، عندما ذهبوا إلى عملهم في اليوم التالي للانقلاب، وكانت هي برنامج حكومة بينوشيه. وتربط مؤلفة الكتاب ربطا وثيقا بين الفظائع التي ارتكبها نظام بينوشيه، وبين التغييرات الاقتصادية التي أحدثها، وتعتبر الأمرين مترابطين ومتكاملين، وهي بذلك تخالف الآراء التي كانت تظهر في الإعلام الأمريكي، من مثل القول “إننا بطبيعة الحال نرفض انتهاكات بينوشيه لحقوق الإنسان، ولكنه في المجال الاقتصادي كان رائعاً”، وكأنه لم تكن ثمة علاقة بين ثورة السوق الحرة التي تمكن من إحداثها وتمريرها، وبين انتهاكات حقوق الإنسان الصارخة التي كانت تجري في الوقت ذاته، وما تريد المؤلفة فعله في كتابها هو الربط بين الأمرين، والقول انه كان من المستحيل تنفيذ هذا البرنامج الاقتصادي من دون ذلك القمع الخارق للمألوف، وتقويض الديمقراطية.


التعذيب

تتحدث المؤلفة عن التعذيب وعلاقته بمبدأ الصدمة، فتقول ان التعذيب - من تشيلي إلى الصين إلى العراق - كان ولا يزال شريكا صامتا في حملة السوق الحرة العالمية الشرسة. ولكن التعذيب أكثر من أداة لفرض السياسات غير المرغوبة على الشعوب المتمردة، فهو كذلك كناية عن المنطق الذي يقوم عليه مبدأ الصدمة.

والتعذيب، أو الاستجواب القسري، بلغة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، هو مجموعة من التقنيات الهادفة إلى وضع السجناء في حالة من الارتباك الشديد والصدمة لإجبارهم على الإدلاء باعترافات خلافا لرغبتهم. والمنطق الملهم لذلك مشروح بالتفصيل في دليلين عمليين لوكالة الاستخبارات المركزية، كشف النقاب عنهما، وأزيلت عنهما صفة السرية في أواخر تسعينات القرن الماضي، وهما يوضحان ان السبيل إلى تحطيم “المصادر المقاومة” يتمثل في خلق إنسلاخ عنيف بين السجناء، ومقدرتهم على إدراك العالم المحيط بهم بصورة منطقية، فأولاً، يتم حرمان حواس السجين من أي مدخلات (بوضع غطاء على الرأس، وسطام في الأذنين، وأغلال في اليدين والرجلين، ووضع السجين في عزلة تامة)، ثم يتم قصف الجسم بمؤثرات كاسحة (أضواء ساطعة، موسيقا مدوية صاخبة، الضرب، والصدمات الكهربائية).

وتهدف مرحلة تحطيم المقاومة هذه إلى استثارة ما يشبه الإعصار في العقل، حيث يبلغ التراجع والخوف لدى السجناء حدا يجعلهم غير قادرين بعد ذلك على التفكير المنطقي أو حماية مصالحهم. وفي مثل هذه الحالة من الصدمة يعطي معظم السجناء المحققين معهم كل ما يطلبونه من معلومات، واعترافات، وتخل عن معتقداتهم السابقة، ويورد أحد دليلي وكالة الاستخبارات المركزية تفسيرا بليغا لذلك، حيث جاء فيه ان “هنالك فترة - قد تكون قصيرة جدا- من تعليق أو توقف الأنشطة الحيوية.. نوعاً من الصدمة النفسية أو الشلل، تسببها تجربة مؤذية على الصعيد النفسي، تفجر العالم المألوف لدى السجين، وتفجر تصوره لذاته ضمن ذلك العالم. ويميز المحققون المتمرسون هذا الأثر عندما يحدث، ويعلمون أن السجين في هذه اللحظة يكون أكثر استعداداً للتجاوب مع ما يطرح عليه، والامتثال، مما كان عليه قبل أن يتعرض للصدمة”.

وتضيف المؤلفة قائلة: إن مبدأ الصدمة يحاكي هذه العملية بحذافيرها، ويحاول أن يحقق على نطاق جماعي ما يحققه التعذيب الفردي داخل زنزانة التحقيق، وأوضح مثال على ذلك هو صدمة 11 سبتمبر/أيلول، التي فجرت لدى الملايين من الناس “العالم المألوف” واستهلت مرحلة من الارتباك العميق والتراجع اللذين استغلتهما إدارة بوش ببراعة. وعلى حين غرة، نجد أنفسنا، كما تقول المؤلفة، نعيش في ما يشبه “السنة صفر”، التي يمكن أن نستبعد فيها كل ما عرفناه عن العالم من قبل، باعتباره “تفكيراً ينتمي إلى مرحلة ما قبل 11/9”. وتضيف المؤلفة انه لم يسبق للأمريكيين الشماليين خلال تاريخهم المعروف ان تحولوا بهذه القوة إلى “صحائف بيضاء” يمكن “ان تكتب عليها أحدث وأعذب الكلمات”، على حد قول ماو عن شعبه الصيني. وقد برز فجأة وعلى الفور جيش جديد من الخبراء ليكتبوا الكلمات الجديدة العذبة، على صفحة وعينا المتفتح والمرحب بعد الصدمة: مثل “صدام الحضارات” و”محور الشر” و”الفاشية الاسلامية” و”أمن الوطن”. ومع انشغال الجميع بالحروب الثقافية الجديدة القاتلة، تمكنت ادارة بوش من ان تفعل ما لم يكن سوى حلم قبل 11/9 وهو شن حروب مخصخصة في الخارج وبناء مجمع أمني لمصلحة الشركات الكبرى في الداخل.

وتشرح المؤلفة الآلية التي يعمل بها مبدأ الصدمة، فتقول ان الكارثة الأصلية  مثل الانقلاب، أو الهجوم الإرهابي، أو انهيار السوق، أو الحرب، أو تسونامي، أو الإعصار  تضع السكان كافة في حالة من الصدمة الجماعية، ويعمل سقوط القنابل، والانفجارات الارهابية، والريح العاتية، على كسر شوكة مجتمعات كاملة، مثلما تفعل الموسيقى المدوية الصاخبة واللكمات في زنازين التعذيب على تركيع السجناء. ومثلما السجين المذعور الذي يبوح بأسماء رفاقه يتخلى عن عقيدته، تتخلى المجتمعات المصدومة عن أمور تحرص عليها وتصونها بشدة في الظروف العادية. 


أشكال الصدمة

تتحدث المؤلفة عن أشكال مختلفة من الصدمة، الأول هو الصدمة الاقتصادية، والثاني هو الصدمة الجسدية. وتقول إنهما ليسا مترافقين معاً دائماً، ولكنهما كانا كذلك في مفترقات رئيسية.

وتعيد المؤلفة القول إن احد مختبرات هذا المبدأ كان جامعة شيكاجو في خمسينات القرن الماضي، عندما كان يجري تدريب كل اقتصاديي أمريكا اللاتينية ليصبحوا معالجين بالصدمة الاقتصادية، غير أنه كانت هنالك كلية أخرى، لعبت دور نوع آخر من مختبر الصدمة، هي جامعة ماكجيل في خمسينات القرن الماضي. وكانت هذه الجامعة منطلق التجارب التي كانت تمولها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية لكي تفهم كيف تمارس التعذيب على أصوله.

وكانت تمارس تجاربها في مجال ما يسمى “السيطرة على العقل” أو “غسيل الدماغ” في ذلك الوقت. وقد انكشفت فيما بعد حقيقة التجارب التي كانت تجريها في الخمسينات بموجب برنامج (ام كيه الترا) حيث كانت تستخدم صدمات كهربائية قوية جداً، وعقاقير ال اس دي، وبي سي بي، والحرمان الحسي الشديد، وارهاق الحواس، وهي التجارب التي استخدمت زبدتها في التعليمات التي سار عليها السجانون الأمريكيون في جوانتانامو وأبو غريب. وكانت هذه التجارب تقوم على نكث شخصية الذي تُجرى عليه التجربة، واعادته إلى طفولته المبكرة، حيث يصبح قابلاً لإطاعة ما يملى عليه. وقد اختارت وكالة الاستخبارات جامعة ماكجيل في مونتريال “كندا “ لإجراء التجارب فيها، لأن ذلك سيكون أسهل من إجرائها داخل الولايات المتحدة.

وتمضي المؤلفة إلى القول إن رئيس قسم الطب النفسي في جامعة ماكجيل كان في ذلك الوقت ايوين كاميرون، وهو مواطن أمريكي في واقع الأمر، وكان رئيس جمعية الأطباء النفسانيين الأمريكيين في السابق.

وكان كاميرون يتلقى التمويل من وكالة الاستخبارات المركزية، وقد حول مستشفى (الان ميموريال) الذي كان يرأسه إلى مختبر غير عادي لما يعرف الآن باسم تقنيات التحقيق البديلة. وكان يعطي مرضاه جرعات من خلائط من العقاقير مثل ال اس دي، وبي سي بي، وكان يُنيمهم، في حالة تشبه الغيبوبة أو السبات إلى ما يقرب من شهر. وكان يضع بعض مرضاه في حالة من الحرمان الحسي الشديد، والغرض من ذلك هو افقادهم الحس بالزمان والمكان.

وكان منطلق كاميرون في كل ذلك هو ان جميع الأمراض العقلية يتم تعلمها فيما بعد في الحياة، وهي انماط تتكون في مرحلة لاحقة من حياة المريض. وكأي عالم نفس سلوكي. وبدلاً من التوصل إلى جذر هذه المشكلات ومحاولة فهمها، كان يعتقد بأن السبيل إلى علاج المرض العقلي هو أخذ البالغين وإرجاعهم إلى حالة تشبه الطفولة. وكان معروفاً في ذلك الوقت ان أحد الآثار الجانبية للعلاج بالصدمة الكهربائية هو فقدان الذاكرة، وهو أمر كان يعتبره معظم الأطباء مشكلة، لأن المرضى الذين كانوا يعالجون بهذه الطريقة، قد يحققون بعض النتائج الايجابية، ولكنهم ينسون كل ما يتعلق بحياتهم. وكان (ايوين) ينظر إلى هذا النوع من الأبحاث ويقول في نفسه انه جيد، لأنه كان يعتقد أنه اذا كان يستطيع أن يعيد مرضاه إلى حالة طفولية، حتى إلى مرحلة ما قبل اكتساب اللغة، وقبل ان يعرفوا من هم، فإنه يستطيع ان يعيد لعب دور الأم معهم، ويستطيع ان يحولهم إلى اناس أصحاء، وكانت هذه هي الفكرة التي استرعت انتباه وكالة الاستخبارات المركزية، فكرة استثارة حالة من النكوص الشديد المدروس.

وعن التعذيب في العراق تقول المؤلفة إن الناس كانوا يجمعون ويساقون إلى السجون، وكان يستخدم معهم التعذيب، مثلما كان في أمريكا اللاتينية، من أجل بعث رسالة إلى الأمة كلها، والتعذيب دائماً سري وعلني في الوقت ذاته. وهذا صحيح بصرف النظر عمن يمارس التعذيب، وهو ان التعذيب لكي يؤدي مفعوله كأداة في يد إرهاب الدولة، فهو لا يتعلق فقط بما يحدث بين محقق وسجين، بل هو أيضاً لبعث رسالة إلى المجتمع الأرحب، مفادها: ان هذا هو ما يحدث اذا خرجتم عن الخط. وقد استعمل التعذيب من قبل الاحتلال الأمريكي على ذلك النحو، لا للحصول على المعلومات فحسب، بل كتحذير للأمة كذلك.

تأليف: نعومي كلاين ...
 ترجمة: عمر عدس ...
 

Berlangganan update artikel terbaru via email:

0 تعليق على "عقيدة الصدمه - La Stratégie du choc - The Shock Doctrine"

إرسال تعليق

Iklan Atas Artikel

Iklan Tengah Artikel 1

Iklan Tengah Artikel 2

Iklan Bawah Artikel